رسالة إلى المسلم في عيد جيروم أو ’يوم الترجمة الأممي‘
الـمـُـقـدّمـة
لم يعتقد الإسلامَ ذو عقلٍ إلا عَلِم أنّ
العمل بعِلمِه يُعدّ مِن مُقتضيات الاستسلام والتسليم لخالقه، سبحانه وتعالى. والمـُفترَض
أنّ المترجمَ، مِن أهل أيِّ مِلِّةٍ أو فكرٍ أو عقيدةٍ كان، العالِمَ بوعورة مسلكه
المهنيّ وثقل العبء الذي على كاهِله، يعي ما يعيه مَن هُم على التُّخوم وما يكابده
أهل الثغور؛ ولعله يكون رائدهم، والرائد لا يكذب أهله. فاستعنت بالله، عزّ وجلّ،
في كتابة هذا المقال بلسان حال المسلم المترجم.
إنّ ما تعاقد عليه البشر فيما بينهم ممّا
فيه صلاحهم أمرٌ محمودٌ في الجُملة. ومِن الجدير التذكير أو التقرير – حسب المـُخاطَب
– أنّ المسلم يؤمن أنّ ربّ الخلق أعلم بما فيه صلاحهم، وإن اتّخذوا كتابه ظِهريّا
أو جحدوه.
فالمترجم مطالبٌ شرعا – شأنه في ذلك شأن
كل مسلمٍ في أيّ حقلٍ كان – أن يعبد الله، عزّ وجلّ، بتطبيق شرعه وبأن لا يُقدِّم
على شرعه شيئا؛ وغنيٌ عن القول إنه لا يتحقق له ذلك إلا بالتفقّه فيه.
الـمُـنـاسـبـة
تخصيصُ يومٍ مِن قِبَل منظمةٍ أو دولةٍ
أو جهةٍ ما ليكون مناسبةً أو احتفالا إنّما هو نشاطٌ ترمي إليه هذه المنظمة أو تلك
الدولة لتحقيق أهدافٍ مُعيّنةٍ تتّسق مع سياستها ومنهاجها. وهذه المناهج والسياسات
قد تتعارض، بطبيعة الحال، مع دين الأفراد والجماعات أو سياساتهم أو مناهجهم أو فكرهم
أو عقائدهم.
مُسمّى اليوم حسب صفحته على الموقع الأممي الإلكتروني. |
ولا أعلم سبب إصرار غالبية الإعلاميين، بل واللغويين بما فيهم المترجمين، على تسميته "اليوم العالمي للترجمة". فهذه إعادة صياغةٍ أو اختلاف ترجمة اسمٍ أو عنوانٍ وضعه صاحبه على نحوٍ مُعيّن. ولو جاز لي ما استجازه غيري لنفسه لوصفته باليوم "الأُمَمي"، نسبةً إلى كلمة: الأُمَم.
لـمـاذا الـثـلاثـون من أيـلـول/سـبـتـمـبـر؟
بهذا عَنوَنت الأمم المتحدة في صفحتها
الإلكترونية للإعلان عن هذا اليوم. فبماذا أجابت؟
"30 أيلول/سبتمبر يحتفل بعيد القديس جيروم، مترجم الكتاب المقدس،
الذي يعتبر شفيع المترجمين."
ثم تُورِد الصفحة شيئا من سيرته المقتضبة، وتختمها
بما يلي:
"وتوفي جيروم بالقرب من بيت لحم في 30 أيلول/سبتمبر من عام
420."
لا يذكر الموقع مسقط رأسه، وكذلك تهمل
ذكره أغلب المصادر، إلا إنه يُعتقد أنه وُلد في قريةٍ معروفةِ الاسم مجهولةِ
المكان أو مُختلَفٍ في مكانها، إما في كرواتيا أو سلوفينيا الحاليتين أو غيرهما.
كما أنّه يُعرف بعدّة أسماءٍ أخرى: "القديس إيرونيموس، القديس جيروم، القديس
چيروم، هيرونيموس". وبالإنجليزية "Jerome, Hieronymus".
هـل هـذا مـقـالٌ عـقـديّ؟
لست هنا لتأصيل مسألة عقدية، فمِن
المعلوم مِن الدّين بالضرورة أنّ المسلم – وأعني المترجمَ أول ما أعني – مأمورٌ
بمخالفة الكفّار (وهي كلمة يعتقد بعضهم أنهم يتلطّفون بإحلال "غير
المسلم" محلها. ولأنّ خطابي موجّهٌ إلى لُغويين أتوسّم أنّ معظمهم يفقه
معناها الاصطلاحي الشرعي وأنه لا يُعدّ شتما، لذا لن أخوض في تسويغها).
قد يُشهَد لجيروم درايته في علمٍ ما،
وربما يُشيد بجهوده مَن يُشيد. بيد أن يُصرَّح بأنّ هذا اليوم هو احتفالٌ بعيد ’قِدّيسٍ‘
فإنّ ذلك يُفضي بِمَن أسلم وجهه لله وهو مؤمنٌ إلى عرض هذه المسألة على أهل أشرف
العلوم وهم علماء الشريعة وورثة عِلم الأنبياء، الذين حفظوا لنا علم الوحي، كي يُفتونا
في حُكم المشاركة في هذا اليوم بجميع مراتبها. فعِبارة القوم لا مواربة فيها.
فللقِدّيس عيدٌ أصلا – كما سيتبيّن للقارئ في هذا المقال. وقد قرّر مَن قرّر في
هذه المنظمة – بمسلميها ربما وكافريها، سيّان – أن يُخصّصوا لمناشطهم، المتعلقة بدَور
الترجمة وإسهامها في التواصل الحضاري إلخ، يوما هو يوم وفاته.
خُـلاصـة قـول أهـل الـعِـلـم *
"أعياد الكفار كثيرةٌ مختلفةٌ. وليس على المسلم أن يبحث عنها، ولا يعرفها. بل يكفيه أن يعرف في أيّ فعلٍ مِن الأفعال أو يومٍ أو مكانٍ أنّ سبب هذا الفعل أو تعظيم هذا المكان والزمان مِن جِهتهم. ولو لم يعرف أنّ سببه مِن جِهتهم، فيكفيه أن يعلم أنه لا أصلَ له في دين الإسلام، فإنه إذا لم يكن له أصل، فإما أن يكون قد أحدثه بعض الناس مِن تلقاء نفسه، أو يكون مأخوذا عنهم. فأقل أحواله أن يكون مِن البِدَع."
* الكلام لابن تيمية، رحمه الله تعالى، كما فصّل القول في هذه المسألة العقدية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم".
ثـمّـة مـا يـدعـو لـلـعَـجَـب!
يُقرّر مَن دَعوا إلى الاحتفاء بالمترجم جيروم أنه "يُعتبر شفيع المترجمين"، هكذا!
سؤال الموقع الأممي والإشارة إلى ورود معنى المفردة بالإنجليزية في جوابه. |
أغلبُ الظن أنّ النص العربي ترجمةٌ عن الإنجليزية (ذات النص الأصلي في معظم الأحيان)، وتكون كلمة "شفيع" ترجمةً لعبارة: "the patron saint"، كما في النبذة الإنجليزية عنه.
مـعـانـي patron saint؟
- قاموس Merriam-Webster الأمريكي
يُورد القاموس معنيين لها:
- المعنى الأول: قِدّيس.
- المعنى الثاني لا يزيد عن كونه: قائد أو قدوة.
- موقع الأنبا تكلا هيمانوت (المحسوب على الكنيسة القبطية الأرثوذكسية)
يذكر الموقع إنّ
’شفاعة‘ القديس إنّما هي ’شفاعة توسّليّة‘، وإنّ:
"لهم [أيْ ’للقديسين‘] دالة عند الله أيضا بعد انتقالهم
للسماء، وبركة أعمالهم الصالحة وبِرّهم تحل على آخرين حتى بعد موتهم."
ويُورِد
في موطنٍ
آخرٍ مِن نفس الموقع، وبصياغةٍ فيها
ما فيها، إنّه:
- موسوعة المعرفة (مؤسسة المعرفة)
تعريف موسوعة المعرفة: جيروم (شبكي). |
نصّت الموسوعة
على أنّ 30 سبتمبر يُعتبر "عيده الديني عند
النصارى".
كما ذكرت – كما
يظهر في أسفل الصورة المرفقة – إنه ’يرعى‘ فيمَن ’يرعى‘ المترجمين.
ويُحالُ المرء عند
الضغط على كلمة "يرعى" إلى صفحةٍ فارغةٍ بعنوان "القديس
الراعي"، والتي تُعدّ فيما يبدو مقابلا للعبارة الإنجليزية ومرادفا لعبارة
"القديس الشفيع" أو "القديس" أو "الشفيع" سابقة
الذِّكْر.
شعار اليوم الدولي للترجمة الرسمي الداعم للفاحشة. |
إنّ على المسلم أن يستبرئ لدينه، فهو
مأمورٌ بطلب العلم الشرعي الذي يقيم به دينه. ويشترك المسلمون في قدرٍ واحدٍ من
هذا العلم ثم يتباينون تباينا في قَدْرٍ زائدٍ حسب أعمالهم ومسؤولياتهم، إلى ما
هنالك.
يستنهِض المقالُ في المترجم همّته
وعزيمته كي يتصدّى لكل طارئ، إذ هو أول مَن يُجابه ما يستجدّ مِن أفكارٍ ونظرياتٍ
وقوانين وسياسات، صحيحها وسقيمها.
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به، سبحانه وتعالى.
كل الشكر والتقدير على الجهد الطيب وأتمنى ان يستفيد الجميع من هذا المقال والتوجيه الرائعين.
ردحذفجزاكم الله خيرا، أخي الفاضل، ورزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، والإخلاص في القول والعمل.
حذف